أخبرني أحد الأصدقاء عن صاحب له مسلم بريطاني سافر لزيارة القدس فلما وصل إلى مطار تل أبيب أوقفه الشرطي الإسرائيلي للتحقيق المعتاد الذي يخضع له المسلمون الأوروبيون عند قدومهم إلى القدس. فتش الشرطي هاتفه فوجد فيه ما يدل على استماعه لبعض المواد المتصلة بقضايا المسلمين في العالم، فقال له الشرطي: “أنت تستمع إلى فلان؟ أنت مع فكر الأمة الواحدة؟!”.
بعد عامين من سماعي لقصة صاحبنا الإنجليزي كان أبو عبيدة -الناطق باسم كتائب عز الدين القسام– يتلو بياناته المتوالية في طوفان الأقصى (السابع من أكتوبر 2023م/ 22 ربيع الأول 1445هـ) التي يبدأها بـ” يا أبناء أمتنا العربية والإسلامية”.اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2قصة إسلام إنجيلي أميركي.. كيف أصبح تديّن الغزيين نموذج هداية؟list 2 of 2عين على غزة وصوت في باريس .. هل تحسم المقاومة انتخابات فرنسا؟end of list
هذه المفارقة في النظرة إلى فكرة الأمة بين الشرطي الإسرائيلي الذي توجس من هذه الكلمة، وبين خطابات أبي عبيدة التي يجعلها مفتتح حديثه، تجعلنا نفحص هذا المفهوم عن قرب ضمن السياق المفاهيمي الذي ينطلق منه كل منهما، وننظر كيف يُنظر إلى “الأمة” بين مفهومين.
ما بعد الحرب الباردة وإعادة صناعة العدو
يقول بعض الغربيين بمن فيهم الرئيس الأمريكي السابق كلنتون: إن الغرب ليس بينه وبين الإسلام أي مشكلة، وإنما المشكلات موجودة فقط مع بعض المتطرفين الإسلاميين. أربعة عشر قرنًا من التاريخ تقول عكس ذلك.
صامويل هنتنغتون
غلاف الحرب الباردة الثقافية (الجزيرة)
في كتابها “من الذي دفع للزمَّار؟ الحرب الباردة الثقافية” تتبعت فرانسيس سوندرز الجهود الضخمة التي قادتها المخابرات الأميركية في مجابهة الثقافة الشيوعية في البلاد التي تغلغلت فيها.
في هذه الأثناء اعتبرت الولايات المتحدة هذه المهمة حربًا ثقافية ضمن قضايا الأمن القومي، وأسندت هذا الملف الثقافي إلى جهاز المخابرات الأميركية (CIA)، وأنفقت في سبيل تغيير هذه المعالم الشيوعية ملايين الدولارات وجندت آلاف الكُتاب والفنانين والأكاديميين في العالم لتبني سردية عالمية جديدة تناهض السردية الشيوعية.
وتقول سوندرز “بلغت سيطرة المخابرات الأميركية على مجمل الحياة الثقافية درجة مخيفة عندما نجح السيناتور مكارثي في تكوين لجنة داخل الكونغرس لمكافحة النشاط المعادي لأميركا ومرر مشروع الرقابة على الثقافة. فقد أوجدوا أجواء مشابهة لأجواء الثورة الفرنسية حين كان الفرنسيون يؤخذون بالشبهات إلى المقصلة، لكن في حالة الولايات المتحدة فإن المشتبه في شيوعيته ينتهي أمره بتدمير حياته ومستقبله وربما يدفعه ذلك إلى الانتحار”.
بنهاية الحرب الباردة، خرجت الولايات المتحدة منتصرة على السُّوفيات، وهو ما مَكَّنَ مخابراتها من مراكمة خبرة جيدة في إدارة الملفات الثقافية التي تتصل بتغيير هويات الأمم ضمن سياق الشعارات الأميركية التي صدرت مع الدول الأخرى في فترة الحرب الباردة مثل: الأمن القومي الأميركي والعولمة والقطب الأوحد والعالم الجديد. وما إن تفكك الاتحاد السوفياتي، حتى كان على أميركا توظيف خبرة الحروب الثقافية تلك ضمن مهمة إخضاع بقية العالم -غير الأبيض- لهمينتها ذات التوجه الغربي الليبرالي.
وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي بخمس سنوات فقط، وبالتحديد في عام 1996؛ أصدر صاموئيل هنتنغتون -أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد- كتابه الأشهر “صدام الحضارات” الذي جعل عنوانه الفرعي “إعادة تصنيع النظام العالمي”.
كان رأيّ هنتنغتون أن ثقافة هذه “الأمة المسلمة” إحدى أكبر العقبات أمام السيادة الحضارية الأميركية الجديدة بعد تفكك الشيوعية، والإسلام في ذاته لا يمكن القبول به في الحضارة الجديدة، على حد تعبيره. أما الصحوة الإسلامية -التي كانت منتشرة في ذلك الوقت- فما هي إلا عقبة ضد دمج الإسلام في المنظومة الليبرالية، لكنها ليست العقبة الكبرى.
“المشكلة المهمة بالنسبة للغرب ليست في الأصولية الإسلامية بل في الإسلام، فهو حضارة مختلفة، شعبها مقتنع بتفوق ثقافته… والمشكلة المهمة بالنسبة للإسلام ليست في المخابرات الأميركية ولا وزارة الدفاع، وإنما المشكلة هي الغرب ذاته: فالغرب حضارة مختلفة مقتنع شعبها بعالمية ثقافته … وأن عليه التزاما بنشر هذه الثقافة في العالم”.
صاموئيل هنتنغتون
“. لم تكن هذه النظرة لهنتنغتون مجرد نظرة أكاديمية راديكالية تجاه الإسلام والمسلمين، وإنما كانت مشروع عمل سوقه هنتنغتون في دوائر القرار الأميركي، فقد أدار هنتنغتون وحدة التخطيط في مجلس الأمن القومي الأميركي، ودرس عليه عدد من المنظرين السياسيين الأميركيين المؤمنين بالنظرة نفسها، من أهمهم فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” الذي عمل كذلك في عدد من المراكز البحثية المرموقة المتصلة بصناعة السياسات الأميركية، ومن ذلك عمله في مؤسسة راند الممولة من وزارة الدفاع الأميركية، وترؤسه للمنتدى العالمي لدراسات الديمقراطية الممول من مركز الأمن القومي الأميركي، الذي أدار وحدته للتخطيط أستاذه هنتنغتون.
صاموئيل هنتنغتون (روتيرز)
كانت نظرية هنتنغتون التي صاغها تقوم على فرضية بسيطة ضمّنها كتابه “صدام الحضارات” وهي: أن أمريكا -والغرب من ورائها- ليس أمامها سوى استكمال الحرب الثقافية ضد الأمم المناوئة لحضارتها وبخاصة الآسيوية والشعوب المسلمة، وعلى الأميركيين إخضاع هذه الحضارات الأخرى لليبرالية الأميركية إن أرادوا استكمال دورة الحضارة الإنسانية، وترافق ذلك عمليات الدمقرطة واللبرلة في عالم ما بعد الاتحاد السوفيتي. وكان السياق الحامل لهذه الأفكار سياق الأمن القومي، وليس مجرد سياق ثقافي. وبالتالي فإن من رفض هذه النظرة من الدول والأمم المختلفة اعتُبر بمثابة “أمم مارقة” (Rogue Nation). ففي عام 1995، نُشرت دراسة عن الردع الإستراتيجي، أعدت برعاية القوات الجوية الأميركية، جاء فيها أن العدو التقليدي الجديد بعد الاتحاد السوفياتي هو الدول المارقة وهي: العراق وليبيا وإيران وكوبا وكوريا الشمالية.
إعادة ضبط المفاهيم.. ما بعد سبتمبر
في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، أعاد الأكاديميون المسلمون وغير المسلمين بناء المقولات الاستعمارية والاستشراقية أثناء تحديد إسلام ليبرالي ملائم للعالم الحديث
روزماري هيكس
لم تكن أطروحة صدام الحضارات لهنتنغتون، التي اختمرت بُعيد الحرب الباردة؛ أطروحة نظرية باردة بين أروقة الجامعات. فقد دخلت إلى أروقة السياسة من أوسع أبوابها بعدما أصبح هنتنغتون مستشارا للرئيس الأميركي جيمي كارتر.
وفي الوقت نفسه، استمد هنتنغتون معلوماته حول الإسلام التي أوردها في كتابه “صدام الحضارات” من المستشرق اليهودي أستاذ الحضارة الإسلامية في جامعة برنستون برنارد لويس. وهو الرجل الذي سيذيع صيته بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وسيُصبح أثره واضحا في السياسات الأميركية حول ما سُمي “الحرب على الإرهاب”.
وعلى نهج هنتنغتون إبان الحرب الباردة، أوجد لويس لنفسه موطئ قدم عند الساسة بوصفه مستشارا غير رسمي لإدارة جورج بوش، وقدم نصائح عملية للتعامل مع الإسلام والأصولية الإسلامية لكبار الساسة الأميركان وعلى رأسهم الرئيس جورج بوش، ونائبه ديك تشيني، ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد. أما الدور الأهم الذي يُنسب إلى برنارد لويس بعد الحادي عشر من سبتمبر فهو ترويج ودعم سياسات الإسلاموفوبيا، ولعل لويس أول من صكّ مصطلح الإرهاب الإسلامي في مؤتمر عقده رئيس وزراء الكيان الصهيوني الحالي بنيامين نتنياهو عام 1986م.
المؤرخ البريطاني- الأميركي برنارد لويس (Getty)
لم يكن هنتنغتون ولويس وحدهما بالطبع في هذا المضمار كله، بل كانا حلقة ضمن سلسلة طويلة من المستشارين السياسيين والثقافيين في مراكز دعم القرار الأميركية (Think Tanks).
وهذه المراكز وإن كانت نشأتها تعود إلى مطلع القرن الماضي، فإنها -بحسب زكاري لوكمان في كتابه عن الاستشراق- قد تزايد اهتمامها بالعالم الإسلامي في بُعده العسكري وفي تطوير المفاهيم الإسلامية لتلائم الليبرالية الأميركية بعد الحادي عشر من سبتمبر.
وفي هذه المراكز يعمل عدد كبير ممن يُطلق عليهم “خبراء الشرق الأوسط” لتقديم أوراق العمل الداعمة للسياسيين. وقد كُتب لتقرير “إسلام ديمقراطي مدني” حظه من الانتشار عربيا منذ صدوره 2007م لصراحة كاتبة التقرير في أهمية أخذ الولايات المتحدة خطوات جادة لبناء ممثلين للإسلام المدني -أو اللبرالي بلفظة أخرى- في الشرق الأوسط، وكان هذا التقرير ضمن سياق أوسع، وهو سياق إيجاد إسلام جديد على النحو الذي حاوله الساسة الأميركان في حربهم الثقافية ضد الإسلام بعد 11 سبتمبر.
فقد قُدم هذا التقرير لمؤسسة راند البحثية التابعة لوزارة الدفاع الأميركية، التي بلغ حجم تمويلها في عام 2023م 390 مليون دولار. أي أن هذا التقرير وُضع بين أيدي صناع القرار باعتباره ورقة عمل إلى جوار أوراق عمل أخرى تتصل بالحرب الذرية والطاقة النووية والوضع السياسي في الشرق الأوسط.
والمعتاد في مثل هذه المراكز البحثية المتصلة بصناع القرار أن تُقدم التقارير في صورة خطط عمل، وليس مجرد كتابات فكرية أو فلسفية وصفية مجردة. والذي يكتب هذه التقارير -أو يشرف عليها على الأقل- سياسيون أو صناع قرار. ففي راند نفسها عمل هنري أرنولد القائد الأعلى للقوات الأميركية في الحرب العالمية الثانية، و صموئيل كوهين مخترع القنبلة الذرية، وهنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية الشهير، ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي إبان حرب العراق.
و”حين يضع الساسة كتبا في فترة خدمتهم، فهم لا يؤلفون الكتب، وإنما يقترحون خطط عمل”. وإلى جانب نوعية الباحثين في هذه المؤسسة، من ذوي الخلفيات السياسية أو الأمنية، فإن الموضوعات تتسم بالعملية والفاعلية، وهو ما تخبرنا به عناوين تقارير أخرى لمؤسسة راند سبقت أو تلت أحداث سبتمبر مثل تقارير: “العالم الإسلامي بعد 11 سبتمبر – 2004م”، و”الشعور بالحصار – الجغرافيا السياسية للإسلام والغرب”، و”الإسلام في القوقاز: المثال الشيشاني – 2003م”، و”فهم إيران – 2009م”، و”المرأة القطرية في مجال العمل – 2008م”، و”مكافحة التمرد في العراق – 2006م”.
ومنذ الحادي عشر من سبتمبر، ونحن إذن أمام تلك الترسانة من أوراق العمل الممثلة في التقارير البحثية التي تتصل اتصالا مباشرًا بالمنطقة الإسلامية وإعادة تأويل المفاهيم الصلبة المتصلة بالإسلام.
ويشير بعض الباحثين إلى أن هذه الصناعة للمفاهيم الجديدة لا يقوم بها الغربيون فقط، فمنذ مرحلة العداء مع الشيوعية انخرط عدد غير قليل من المسلمين والعرب المهاجرين الدارسين في الغرب ضمن برامج دراسات الشرق الأوسط ودراسات المناطق لتصنيع هذا الإسلام الجديد، ولا سيما بعد أن مُوِّلت في هذه الفترة هذه البرامج -والباحثين فيها- بمنح سخية للغاية مكنتهم من حفر منهج معرفي جديد أكثر اتصالا بعالم الاجتماع والسياسية في العالم الإسلامي، بعكس الاستشراق الكلاسيكي القديم.
وقد أشارت إلى ذلك روزماري هيكس في ورقتها المعنونة بـ”دراسات الدين المقارن وتأثير الحرب الباردة في تحول التصوف -الهندي والفارسي- إلى حداثة إسلامية ليبرالية” إذ تقول: “ففي السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، أعاد الأكاديميون المسلمون وغير المسلمين بناء المقولات الاستعمارية والاستشراقية أثناء تحديد إسلام ليبرالي ملائم للعالم الحديث”، فقد كان هناك اعتقاد سائد في هذه الفترة بأنه:
“إذا أرادت الليبرالية والمذهب الإنساني أن تزدهرا في العالم الإسلامي، فيجب أن يكونا ليبرالية ومذهبا إنسانيا إسلاميين؛ أو يجب على كل حال إيجاد بعض الأسس لقضايا من هذا الوزن”.
الشرق الأوسط الجديد.. من دفع للزمار؟
بعيدا عن أميركا وسياقها الحديث بما يحمله من حمولة سياسية وعسكرية مع المسلمين بعد 11 سبتمبر، فإن هذه الحالة من تصنيع إسلام ملبرل قد تم تلقيها في بقية أنحاء العالم، عربيا وغربيا. ففي ألمانيا -على سبيل المثال- أنتج عام 2015م أحدُ أهم مراكز التوعية السياسية في ألمانيا (مركز برلين للتثقيف السياسي – bpb) -إبان ذروة صعود داعش- سلسلة مقاطع مرئية تعيد تقديم مفاهيم مركزية في الإسلام في عصر ليبرالي لتناسب الشباب الأوروبي. وأول المفاهيم التي تناولوها كان مفهوم “الأمة”، وقد رأى القائمون على المركز أهمية إعادة تقديم هذا المفهوم في صورة جديدة للشباب المسلم.
“بالنسبة لي، فالأمة ليست مجرد جماعة من المسلمين، بل هي جماعة تشمل البشر جميعا بغض النظر عن الدين الذي ينتمون إليه، أو اللغة التي يتحدثونها، أو لون بشرتهم. فبحجم تنوع البشرية يكون تنوع الأمة”.
كان هذا التعريف الذي ارتضاه المركز وعبرت عنه المؤثرة الألمانية خديجة شميت التي انتدبوها للحديث عن الأمة من منظور شبابي، وخديجة مؤثرة (إنفلونسر) متخصصة في الترويج لمستحضرات التجميل! لم تكن خديجة هي المؤثرة الوحيدة التي أنتج لها الـ”bpb” مقاطع للتعريف (الإنفلونسي) لمفاهيم الإسلام، بل صحبها غيرها من المؤثرين الذين لا يملكون أي مؤهل علمي للحديث عن الإسلام ومفاهيمه الكبرى سوى أن متابعيهم بالملايين.
ولم يكن مفهوم الأمة هو المفهوم الوحيد الذي أُعيد تقديمه للداخل المسلم في ألمانيا، فقد صحب هذا المفهوم عدد من المفاهيم الأخرى التي يُنظر إليها دوما باعتبارها عائقا أمام الليبرالية الغربية، فقد قدم المركزمفاهيم جديدة في عناوين مثل: الخلافة، الجاهلية، العلم، البدعة، الحلال والحرام، الجهاد، دار الإسلام ودار الحرب، الشريعة.
نحن إذن أمام فاعليات وكتابات وأبحاث عديدة لمحاولة إعادة تقديم المفاهيم الإسلامية الصلبة في صورة ملبرلة. وهو ما عبر عنه جوزيف مسعد -أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي في جامعة كولومبيا- بقوله “لقد بات السؤال المطروح في الدوائر الغربية منذ عقود هو سؤال “الإسلام أم الليبرالية وما يتفرع عن هذا السؤال من تنويعات مثل “الفاشية الإسلامية أم الليبرالية؟” أو “الاستبداد الإسلامي أم الليبرالية”… وهو ما يعني: ما لم يكن المرء بربريا، أو مستبدًّا، أو مختلًّا عقليًّا، أو عُصابيًّا، أو شموليًّا، أو متوحشًا غير متسامح، أو كارهًا للنساء، أو مُصابًا برهاب المثلية، باختصار، ما لم يكن المرء مسلمًا، فالإجابة هي حتمًا الأخير (أي أنه سيكون ليبراليًّا)”.
لكن المفارقة أن المسلم في العصر الحديث ليس مخيرًا بين الإسلام والليبرالية بحسب مسعد بل “إنْ رفض المسلمون اعتناق الليبرالية طوعًا، أو اعتناق أنماط معينة من الإسلام يمكن لليبرالية التسامح معها، فإن ذلك يستوجب إجبارهم عليها ولو بقوة السلاح، حيث إن مقاومتهم تهدد قيمة مركزية لليبرالية تتمثل بكونيتها أو ضرورة كوننتها”.
ولأن الشرق لم يعُد بعيدًا جدًّا عن الغرب في عصر العولمة، فلم تتأخر كثيرًا إستراتيجية “الإسلام الديمقراطي المدني” لتصل إلى البلاد العربية، إذ اقترحت شيريل بينارد أن يكون هم الأميركان: “دعم الحداثيين أولا، وتكريس رؤيتهم للإسلام لإزاحة رؤية التقليديين… فهؤلاء الحداثيون هم الذين ينبغي تثقيفهم وتقديمهم للجماهير كواجهة للإسلام المعاصر.
كذا دعم العلمانيين بشكل فرديّ، وحسب طبيعة كل حالة، ودعم المؤسسات والبرامج المدنية والثقافية العلمانية”. وقد مُوِّل العديد من المشروعات والأفراد المناط بهم هذا الدور التنويري عربيا وفق هذه الإستراتيجية.
ورصد الباحث الهيثم زعفان في دراسته “التمويل الغربي وشراء الفكر في العالم العربي” أثر هذا التمويل في كثير من المثقفين العرب ولا سيما في القضايا المفصليّة للأمة، حيث يدعي أن كثيرا من هذه المؤسسات منفصل عن شعور الأمة الواحدة، أو بعبارة زعفان: “يظهر أثر التمويل الغربي بصورة قوية في أوقات أزمات الأمة الإسلامية، حيث نجد الصمت المطبق من قِبل بعض الكتاب والباحثين والمراكز البحثية التي ترتبط بالرأي العام العربي، فينتظر الجمهور منهم حضورًا فكريا في مواجهة الأزمة التي يكون صانعها إحدى الدول الغربية، لكن الانكسار والصمت وتهوين الأزمة، وتحميل الأمة الإسلامية المسؤولية تكون من نصيبهم”.
ويستطرد زعفان في ذكر أمثلة في حرب العراق وموقف المراكز البحثية العربية الممولة أميركيًّا من الغزو، وفي أزمات الرسوم المسيئة للرسول ﷺ، وفي تمويل المشروعات التي تُعنَى بصناعة ما يُعرف بالإسلام المعتدل. ويمكن أن يُضاف إليها في أيامنا هذه مواقف هذه النخب من الحرب الفلسطينية، ومن أجندات دعم مجتمع الانحلال الأخلاقي (LGBT)، وتمويل المؤسسات الإعلامية المُشككة في صوابية وصلاحية القرآن والسنة.
لم يقف الأمر عند حد النخب، فقد مُورست ضغوط على مستوى الحكومات لنشر مفاهيم الإسلام الملبرل في المناهج التعليمية. ووُقّعت شَرَاكات واتفاقات دولية أُجبرت كثير من الدول العربية الداخلة فيها على تغيير مناهجها الدراسية تحت ضغوط وإملاءات أميركية، وفي بعض البلدان كان صامويل هنتنغتون نفسه ضمن خطة تطوير المناهج التعليمية المتصلة بالإسلام.
الطوفان.. ما الجديد؟
“وأصل”الأمة” الجماعة تجتمع على دين واحد، ثم يُكتفى بالخبر عن “الأمة” من الخبر عن “الدين” لدلالتها عليه، كما قال جل ثناؤه: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ يراد به أهل دين واحد وملة واحدة”
أبو جعفر الطبري
كان هذا السياق الذي أُعيد فيه تخليق جديد لفكرة الأمة في العقود الثلاثة الأخيرة، بين التدافع البحثي والضغط الإعلامي المدفوع مخابرتيا أو عسكريا. وقد دُمج هذا المفهوم في بعض البيئات مع حزمة أخرى من المفاهيم ظلت محل ريبة ورُبما اتُّهم المنتمي إليها بالإرهاب مثل مفاهيم الشريعة والجهاد والجاهلية.
مع طوفان الأقصى زُلزلت كثير من مُسلمات المفاهيم التي سادت في العقود الثلاثة، وأصبحت الأجواء قابلة لاستقبال أنماط من الخطاب لم تكن هي الغالبة في السنين الماضية. ومن ذلك إعادة استقبال مفهوم الأمة.
فمع خطابات أبي عبيدة -الناطق باسم كتائب عزالدين القسام- استُدعي هذا المفهوم، ووُجِّه النظر إليه في مساحة أبعد من السجالات الليبرالية الغربية التي عملت على تخليق إسلام جديد.
يرى بعض المحللين أن خطابات أبي عبيدة كانت منطلقة من الحمولة الإسلامية التقليدية التي ينتمي إليها هو والتي يُعبر عنها أحيانا بمفاهيم “الإسلام الحركي” أو “الإسلام السياسي”.
وفي بحثه عن تصورات الأمة المعاصرة، يرى ناصيف نصار أن فكرة “الأمة الواحدة” من المفاهيم المركزية التي يستدعيها الإسلاميون على الدوام -إلى جوار مفهوم الخلافة- في الدعوة إلى مشاريعهم منذ سقوط الخلافة العثمانية، وأن لفكرة الأمة بريقا في خطاب الإسلاميين.
على هذا المنوال سارت خطابات أبي عبيدة الناطق باسم المقاومة، وقد تدرجت مستويات خطاباته، من نداء الشعب الفلسطيني، إلى رسائل إلى الداخل الإسرائيلي والتلويح بورقة الأسرى والضغط على ذويهم، وصولًا إلى الحديث عن الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية وأحرار العالم.
وبحسب محللين، فلم تبدأ هذه الرسائل مع خطابات أبي عبيدة بل سبقه إليها الخطاب الأول لمحمد الضيف -القائد العام لكتائب القسام- فكانت رسالته الأولى “محمَّلة بالرسائل المباشرة، كخطاب محمد الضيف في إطلاق “طوفان الأقصى”، الذي افتتحه ببيان تأسيسي لمشروعية المقاومة الفلسطينية، ثمّ أردفه بالدواعي المباشرة للعملية كسياسات الاحتلال، مع التركيز على قضيتَي الأقصى والأسرى، ثمّ ختمه بخطاب الأمّة وَفق تدرج متسلسل ابتداءً من الفلسطينيين في الضفة والقدس والداخل المحتل عام 1948، ثمّ جماهير الأمّة في بلاد سمّاها بالاسم، ثمّ بقية قوى المقاومة في الإقليم.” حُملت خطابات المقاومة بحمولة دينية كبيرة لا يُمكن أن تنفصل عن السياق الإسلامي الذي تنطلق منه.
فدندنت في جُل خطاباتها حول عن نصرة الأقصى، وأن هذا دور الأمة الإسلامية جميعا.
ويرى الملاحظ أن انطلاق أبو عبيدة في حديثه، هو الانطلاق العام لكلمة أمة المذكور في القرآن، والذي هو بمعنى الجماعة من الناس، وحاول أن يُخاطب بها -لخليفته الفكرية- عموم مستمعيه، وأن يُلامس مسامعهم وأن يجمعهم على هذه الكلمة دون أن يدخل في تنظير كبير حولها، وفي خطاب واحد في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2023 أسقط فيه أبو عبيدة نداء “يا أبناء أمتنا” فحملها كثير من المحللين على أنها رسالة عتاب لهم.
تخبرنا إذن خطابات أبي عبيدة بالنظرة التي يرى بها فكرة “الأمة”، وأنها مكون أساسي من المكونات التي ينطلق منها ويحشد الناس عليها، كما تخبرنا كلمة الجندي الإسرائيلي وريبته في معنى “الأمة” بالسياق الذي ينتمي إليه وينظر منه إلى هذا المفهوم، بوصفه أحد أخطر المفاهيم الصلبة في الإسلام، وينبغي التخفف منه شيئا فشيئا إلى إسلام ملبرل، بمراكز البحث ومؤسسات الفكر والإعلام تارة، أو بالعمل العسكري المسلح تارة أخرى!