كان الإيطاليون يمضون عطلة نهاية أسبوع طويلة بدأت بعيد التحرر الموافق للـ25 من أبريل/نيسان وامتدت 4 أيام استغلها الكثيرون للسفر والاستجمام في منتجعات الشمال أو على شواطئ الجنوب من أجل الترحيب بربيع أتى ممطرا هذه السنة. في هذه الأثناء، كان كًتاب إيطاليا ينزلون ضيوف شرف على معرض تونس الدولي للكتاب، لكنني لم أكن أتابع تفاصيل الدورة.
عدّلتُ لابني الصغير الحفاظة العازلة للماء قبل أن ألقيه في حوض السباحة لأبيه، واستلقيت أتأمل من وراء الزجاج جبال الألب التي لا تزال قممها مكسوة بالثلوج.
ـ أنا أيضا لدي طفلان ولكنني لم أعد أصطحبهما معي في العطل.
ـ تركتِهما مع الجدة؟ (سألتُ مداعبة)
ـ أحدهما عمره 32 والآخر 27.
ـ لم أكن لأخمن سوى أنك في الأربعين! أطريتُ عليها بصدق
ابتسمت لمجاراتي فخرها الواضح بجمالها، وقامت للسباحة.
ـ أتمنى أن يكون الماء دافئا بما فيه الكفاية..
بادلتها ابتسامة حقيقية، وتناولت هاتفي. وبالرغم من أنني لا أقرأ الرسائل غير المستعجلة أيام العطل إلا أنني فتحت الفيديو الذي وصلني بفضول: “إيطاليا فاشية..” كتمتُ الصوت على نحو غريزي ونظرت من حولي. لم تكن تلك الكلمات بحاجة إلى ترجمة. أعدت مشاهدة الفيديو وتأملت تفاصيله. كانت تلك هي صورة مارتشيللو فينيتسياني في الخلفية. نقرت كلمات سريعة على محرك البحث، وتأكدت: محتجون على الحرب في غزة يقطعون تقديم كتاب مبرمج في المعرض الدولي للكتاب بتونس ضمن فعاليات الوفد الإيطالي بمشاركة وزير الثقافة، مما أدى لإلغاء الندوة وانسحاب المشاركين.
فكرت أن أتصل بفرانتشيسكو بورغونوفو، نائب مدير صحيفة “لافيريتا” حتى يجس لي نبض فينيتسياني ويرى إن كان يرغب في التكلم عما حدث، خصوصا أن تعليقه على الواقعة في صفحاته على مواقع التواصل حمل الكثير من المرارة. قلّبتُ المسألة في ذهني وقررت أن أؤجل المسألة وأعود للعائلة.
بعدها كتبتُ مباشرة لفينيتسياني وهو الذي طالما مثّل بالنسبة لي وجها “عائليا”. والواقع أن فينيتسياني يشبه خالي، بل فولة وانقسمت لنصفين، وخالي بالمناسبة دكتور في الصيدلة نصفه سوري وربعه جزائري وربعه الآخر تركي. خلطة من شرق وجنوب المتوسط أنتجت التوأم المسلم لفينيتسياني الإيطالي الكاثوليكي اليميني والذي يعد واحدا من بين أبرز كتاب ومفكري إيطاليا المعاصرين.
ولد فينيتسياني جنوب إيطاليا في إقليم بوليا المطل على البحر المتوسط عام 1955 وصدر له منذ 1979 إلى اليوم 50 كتابا في الفكر، والأدب، والنقد السياسي، والفلسفة، من بين أهمها: “البحث عن المطلق لدى يوليوس إيفولا” (1979)، “ثقافة اليمين” (2002)، “الله، الوطن، العائلة” (2012)، “الحنين للآلهة” (2019)، “فيكو المعجزات” (2023)، وفي الرواية والقصة القصيرة: “العروس غير المرئية” (2005)، “متنفس ساعة. ستون قصة دقيقة” (2015). وأدار عددا من المجلات وكتَب لكبريات الصحف الإيطالية، ويعد حاليا أهم أقلام يومية “لافيريتا” اليمينية.
وكما توقعت أجاب فينيتسياني فورا على رسالتي حتى ونحن في يوم عطلة. “بكل سرور”. هكذا رد بألفة. ورتبنا مباشرة موعدا للحديث، وكان هذا الحوار:
عندما وصلني الفيديو الذي جرى على إثره إلغاء تقديم “فيكو المعجزات” في تونس تذكرت مباشرة مشهدا من الكتاب وصفتَ فيه العراك الذي دار في الكنيسة فوق رأس الفيلسوف الإيطالي فيكو وهو مسجّى في نعشه مما أدى لإعادة التابوت للبيت وعدم استكمال مراسم دفنه كما كان مرتبا لها. في كتابك قلت: “وكأن ذلك اليوم أراد أن يكون تمثيلا لحياة فيكو الذي بقي وحيدا حتى في يوم كهذا”! اليوم لن نترك فيكو وحيدا.. لكن قبل أن نتحدث عن كتابك، بدا لي من نبرة منشورك على فيسبوك تعليقا على إلغاء التقديم في تونس، وكأنك لم تكن تتوقع أي احتجاجات تتعلق بالمشاركة الإيطالية في المعرض.. الشعب التونسي عربي مسلم وهو يرى كل يوم ما يحدث في غزة من مجازر تحصد أرواح أشقائه، ألم يتوقع الوفد الإيطالي أن مواقف حكومته ستؤثر على نشاطاته؟
في الحقيقة لم أتوقع ذلك بالنظر لموضوع الندوة الذي يتعلق بفيلسوف ينتمي إلى منطقة تجمعنا هي المتوسط. ظننت أنه قد يكون هناك مناسبات أخرى للاحتجاج على الحكومة الإيطالية، وهو أمر مفهوم جدا. لكن أن يحصل ذلك في لحظة كنت أتأهب فيها للحديث عن فيكو أشعرني بغصة كبيرة. ومع ذلك فأنا أتفهم بالطبع كل المظاهرات ضد هذه الحرب سواء عندنا أو في أي مكان آخر، ولا أعتبرها مفاجئة.
ولكن هذا لا ينفي أنني شعرت بالخيبة لأن موضوع الندوة لا علاقة له بكل ما يجري بل بفيلسوف طالما رأى في البحر المتوسط فضاءً روحيا يوحّدنا مقابل عالم الشمال البروتستاني الكالفيني. فيكو صاحب فكر يتوافق مع عالم الجنوب، لذلك تفاجأت مما حصل في ندوة كانت مخصصة له.
كتاب “فيكو المعجزات” للمفكر الإيطالي مارتشيللو فينيتسياني (الجزيرة)
فلنتخيل أنك قدمت فعلا كتابك في معرض تونس للكتاب وكالعادة في نهاية الجلسة سيقوم الجمهور بطرح الأسئلة. أنا شخصيا كنت مدعوة ضمن الوفد الإيطالي في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر قبل أشهر، وكانت الحرب قد بدأت على غزة وموقف الاتحاد الأوربي ودوله كان معروفا حيالها. ضمن إحدى الندوات التي نشطتُها وقف شاب جزائري وطرح سؤالا على زميلي الكاتب كوسي كوملا الذي كان حاضرا معي في جناح الاتحاد الأوروبي ضمن ندوة بعنوان “الثقافة المتوسطية تجمعنا”. وسأنقل لك هنا نص السؤال الذي بقي عالقا في ذهني، وأنا على يقين أنه سؤال كان ليطرحه عليك أي شاب تونسي بعد نهاية ندوتك “أنتم هنا تتحدثون عن القيم الانسانية في هذا الجناح الجميل والمنمق. وفي التلفاز تتحدثون أيضا عن حقوق الانسان والقانون الدولي وهي أيضا أمور جميلة جدا وبراقة. عندما اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا جميعكم وقفتم مع أوكرانيا في حربها، لكن اليوم تقفون جميعكم ضد الشعب الفلسطيني الذي يُقتل بالآلاف وكأن من يقتل يوميا ليسوا من البشر. أليس هذه اسمها عنصرية؟..” السؤال أتى بنبرة هادئة ورصينة، وقد وقف الشاب ينتظر الإجابة بصدق. كيف كنت لترد عليه؟
سأقول إنني أتحسر على تضييعنا الخط الذي طالما حافظت عليه بلادنا في سياستها الخارجية. طالما كان لدينا رجال دولة وسياسيون كبيتينو كراكسي، وآخِرهم بيرلسكوني ممن عرفوا كيف يبقون على مسافة واحدة في العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين وهو ببساطة الدفاع عن حل الدولتين. هذا هو الموقف المتوازن الذي أعتقد أن أوروبا كان ينبغي أن تتبناه لأسباب جيوسياسية أيضا تتمثل في أنه لا ينبغي لأوروبا أن تكون دوما تابعة للولايات المتحدة. أوروبا لها تاريخها وخصوصياتها ومصالحها الإستراتيجية والسياسية وهي تختلف كليا عن تاريخ وخصوصيات ومصالح أميركا.
أنا لا أفهم موقف الاتحاد الأوروبي المنبطح الذي يضعنا في مواجهة جزء هام من العالم: العالم العربي بأسره وعوالم أخرى لا يمكن تقزيمها كالصين وغيرها من القوى العظمى. الولايات المتحدة لا يمكنها أن تستمر بلعب دور الحكَم الذي لا يعلى عليه في هذا الكوكب، وإن هي طلبت أن نحمي إسرائيل مهما كان الثمن علينا أن نخضع لكل ما تمليه علينا.. نحن لابد أن يكون لنا موقف مختلف متوازن وسلمي كما هو موقف البابا. وهذا فقط ما يمكنه أن يمنحنا ضمانة للعب دور أكثر فعالية في العالم. أما الآن فنحن لسنا سوى إمّعة تخضع للحكم الأطلسي الأميركي.
موقفي هذا أعربت عنه من خلال كتاباتي أيضا. أتفهم التحالفات والارتباطات الدولية نعم، لكنني كنت أفضل لو أن حكومتنا اعتمدت سياسة أكثر توازنا. صحيح أن الإسرائيليين عاشوا مأساة ولكن مأساة الفلسطينيين أفدح بكثير، وهو ما جعلني أنأى بنفسي عن موقف الحكومة من هذه الحرب وهذا بصراحة ما زاد من غصتي حيال الاحتجاجات التي قوبلتُ بها لأنني ببساطة لا أمثل بأي شكل الطرف موضوع الاحتجاجات، ولا أدعمه.
لكن هل ترى أنه من الطبيعي أن تجلس في ندوة إلى جانب وزير الثقافة وألا تتوقع أن يتم اعتبارك ممثلا لموقف السلطة؟ ألا تعتقد أن الأمر بدا للمحتجين ربما وكأنه ركون منك لموقف الحكومة؟ نحن تقليديا في العالم العربي ننتمي إلى مدرسة يحاول المثقف فيها أن يظهر قدر المستطاع أنه معارض للسلطة حتى يأخذ شرعيته النقدية أمام الجماهير. لكنني لا أعرف كيف يرى مثقفو اليمين علاقتهم بالسلطة.. ومبدئيا هل يمكنني أن أعتبرك مثقفا يمينيا؟ ألا يزعجك هذا التصنيف؟
لا، لا يزعجني هذا التصنيف. صحيح أنه لا يعبر عني بشكل كامل لكنني أقبله. والحقيقة أنني ببساطة مثقف حر. وما حصل يوم الندوة هو أنها كانت مبرمجة صباحا وتم تأجيلها لبعض الظهر لأن الوزير الذي كان قادما في ذلك اليوم أراد أن يكون حاضرا معي. لم أعترض على الأمر لأنني كنت سأتحدث عن فيكو لا عن السياسة الخارجية الإيطالية. أما حضور الوزير إلى جانبي فقد جاء بمحض الصدفة وكان يمكن أن يكون حاضرا في أي ندوة أخرى ذلك اليوم إلى جانب أي كاتب آخر. فِكر فيكو لا علاقة له بالحكومة الإيطالية.
لكنني ما زلت أريد أن أستوضح رؤيتك حول علاقة المثقف اليميني بالسلطة. منذ أيام كنتُ أتحدث مع الفيلسوف الإيطالي أندريا زوك وأخبرني أن مثقفي اليسار طوروا ضمن فلسفات ما بعد الحداثة جهازا تعبيريا مراوغا يجعلهم يبدون وكأنهم ناقدين للسلطة، لكن نقدهم “مخادع ومزيف”. إن كان هذا يجعلنا أمام حالة يمكن أن نصفها بأنها نفاق من مثقفي اليسار وادعاء اتخاذ موقف نقدي من السلطة، كيف يمكنك في المقابل أن تشرح للقارئ العربي موقف المثقف اليميني الغربي من السلطة اليوم؟
مبدئيا علينا أن نميز بين نوعين من السلطة في إيطاليا، بل في أوروبا والغرب عامة: السلطة السياسية والسلطة الفكرية. والفرق بينهما شاسع. السلطة السياسية اليوم عندنا في يد حكومة يمينية كما يعلم الجميع، لكن السلطة الفكرية طالما كانت في قبضة جماعة أو طبقة أو مجموعة مغلقة انتماؤها دوما لليسار وتوجهها الأيديولوجي تقدمي. وهو ما يصعّب مسألة أن تكون مثقفا حرا حقيقيا ومتحررا من السلطة السياسية والسلطة الفكرية معا، بل سأزيدك من الشعر بيتا: في بلدنا سيخدمك أكثر حاليا أن تكون معارضا للسلطة السياسية، لأن ذلك سيمنحك شهرة وترويجا أكثر لأفكارك وتسويقا وإشهارا لكتبك لأن السلطة الفكرية في قبضة اليسار.
أن تتخذ موقفا كموقفي هو الخيار الأصعب. أي أن تكون مثقفا حرا ينقد السلطة السياسية والفكرية معا وهذه الأخيرة أكرر أنها في يد اليسار. لذلك أنا أتفق مع تحليل زوك لأن جميعنا يعرف أن السواد الأعظم من المثقفين اليوم هم نقاد مزيفون للسلطة، فهم يتمتعون بكل المميزات التي تمنحها السلطة الفكرية لهم في الغرب من شهرة وصيت وتسويق وإشهار وما إلى ذلك، ثم يدّعون بعدها معارضة السلطة السياسية للتغطية على خضوعهم للسلطة الأهم بالنسبة لهم وهي سلطة الترويج. المعادلة بسيطة جدا: من السهل جدا أن تلعب دور المعارض السياسي إن كانت سلطة السوق الفكرية والثقافية في صفك. وحتى أعطيك مثالا حيا على ذلك: لا أعلم إن تابعتي آخر صرعات “المعارضة” على اليسار وكاتبهم سكوراتي…
نعم قال أنه تعرض للمنع من التلفزيون الحكومي.
نعم “المنع”! وهكذا نشرت رئيسة الوزراء نصه الذي قال إنه “تعرض للمنع” على صفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي، ولم يبق مذيع ولا صحفي ولا أديب إلا وقرأ نصه الذي “تعرض للمنع” وها هو الآن يقوم بجولة يطوف فيها بين المنابر وكأنه في حج لمريم العذراء محملا بوثيقته التي “تعرضت للمنع”… الله على هذا المنع! أعطني كاتبا واحدا لا يحلم بأن يتنعّم بكل هذا المنع!! المنع الحقيقي هو أن يتم طمسك وإخفاؤك وتهميشك وعدم منحك أي منبر للتعبير عن نفسك كما يحصل مع المثقفين المعارضين فعلا، وهذا بالتأكيد ليس حال سكوراتي ولا حال المثقفين الذين يسيطرون على المشهد في بلدنا اليوم.
ملاحظة فقط على الهامش لقرائنا: نص سكوراتي الذي قال إنه تعرض للمنع يتحدث عن الفاشية. والمفارقة أن هذا الكاتب أعلن عن دعمه المطلق لإسرائيل منذ بداية الحرب على غزة مع أن اليسار الإيطالي يسوّق لنفسه في العالم العربي على أنه مناصر للشعب الفلسطيني. هذا كله في الوقت الذي أظهر فيه مثقفون أحرار غير مصنفين كيساريين وآخرون يمينيون مواقف متوازنة وأخرى داعمة بشكل تام لنضال الشعب الفلسطيني لكن أغلبهم لا يحظى بأي منبر للتعبير عن نفسه. لذا أنا أريد هنا أن أضيء أكثر على المثقفين الذين يتعرضون لما أسميته بالمنع الحقيقي لأفكارهم. قبل أسابيع وفي مطلع شهر رمضان كتبتُ هنا أن ثمة شيئا يشبه الحرب على المقدس في إيطاليا. وقلتُها صراحة أن هناك ما يبدو وكأنه حملة ممنهجة لطمس الإشراقات الروحية في كتابات الشعراء ويظهر هذا في الترجمة عن العربية إلى الإيطالية أيضا. والواقع أنه وقبل عامين هزني كثيرا الشاعر الكبير دافيدي روندوني عندما كتب في عمل جميل جدا له “ما الطبيعة؟ اسألوا الشعراء” إنه قد يكون الشاعر الوحيد الذي لا يخشى اليوم من القول إنه كاثوليكي في إيطاليا. ما هذه التراجيديا التي نعيشها اليوم حيال علاقة المثقف بالدين؟
نعم هذا هو الحال في إيطاليا للأسف، الفكر المسيحي والإلهام المسيحي مهمشان عن قصد، بل لا أخشى من القول إن موضوع المقدس عامة هو ما يراد تحييده، بكل تجلياته الروحية. لذلك فحتى التقاليد الدينية الأخرى يتم عزلها بشكل أو بآخر. ما أصبح مهما في بلدنا اليوم هو احترام ذلك القانون الأيديولوجي الذي استوردناه من الولايات المتحدة والذي يطلق عليه اسم “الصوابية السياسية” وينص على إظهار الاحترام للحقوق المدنية الخاصة بالأقليات مع تهميش ثقافة وتقاليد بلدنا واعتبارها بلا قيمة، وهكذا نرى أن الفكر المسيحي لا يدخل في صلب النقاشات العامة كمواضيع تتعلق بالإجهاض مثلا، وهو موضوع لا يجرأ أحد على انتقاده من وجهة نظر دينية.
هناك من يريد أن يلغي ويمسح المقدس من حياتنا، بل تقديمه على أنه عنصر هامشي لا وزن له ولا اعتبار له في حياة الانسان. وهذا باعتقادي له تداعيات وخيمة على المجتمع عدا أنه شتيمة لذكاء الانسان.. أصبح اليوم هناك من يحتفي “بانتصار اللادين” والذي لا يعني الدين المسيحي فقط بل تضييع البعد المقدس في حياتنا ضمن كل تمثلاته. الدين يستحق الاحترام والمتدين يجب أن يشعر بكرامته، وهذا ما أصبحنا لا نراه في مجتمعنا. والحقيقة أن العلمانية التي نتحدث عنها وكأنها الحل في المجتمعات المعاصرة تخفي بين طياتها الكثير من اللاتسامح حيث أصبح من غير المسموح لنا أن نقول الكثير من الأشياء ضمن هذه المنظومة.
قد يستغرب القارئ حديثنا عن موضوع الدين وعلاقته بالمثقف لكن جامباتيستا فيكو الفيلسوف الذي كتبت عنه، وها نحن اليوم نحتفي به في هذا الحوار، كان مفكرا عظيما لكنه عانى الكثير من التهميش في الجامعة الإيطالية بسبب أفكاره الدينية في وقت كانت مدينته نابولي مفتونة بفلسفات الأنوار الإلحادية القادمة من فرنسا. كنتُ قد طرحت هذا السؤال على فرانتشيسكو بورغونوفو قبل أشهر وسأطرحه عليك اليوم: هل تغير أي شيء بين الماضي والحاضر في الجامعات الإيطالية؟
للأسف لم يتغير شيء. لكن دعيني أكون دقيقا، أعيد الاعتبار لفيكو مطلع القرن العشرين في إيطاليا حيث بدأت الجامعات بدراسته وذلك لأن فلاسفة إيطاليين كبارا على غرار جنتيلي وكروتشي وحتى غرامشي اعتبروه فيلسوفا عظيما. ولكن في هذا المكان من العالم ومنذ 50 أو 60 سنة تحديدا أصبحت الفلسفة عندنا تابعة للفلسفات التحليلية الأنجلو الأميركية وهي فلسفات غريبة عن رؤية فيكو. وهكذا أعيد فيكو مجددا إلى غياهب النسيان.
فلسفة فيكو اليوم في إيطاليا لا مكان لها. ولكنها للمفارقة تترجم في الخارج: تحديدا ضمن الثقافات الشرقية حيث يعاد اكتشافه في أماكن قصية ولكننا في إيطاليا نوغل في نسيانه وتجاهله. دعيني أخبرك مثلا أن المنزل الذي ولد وترعرع فيه فيكو هو اليوم عبارة عن محل لبيع المقالي بنابولي. يبيعون الأكل المقلي في المنزل الذي كان يضم مكتبة والد فيكو! كم نحن جاحدون في حق هذا الرجل الذي يعد بنظري أعظم مفكر مر على بلدنا طيلة 7 قرون من الكتابة باللغة الإيطالية. فيكو لم يعانِ التهميش من أقرانه وفي الزمن الذي عاش فيه فحسب بل لا يزال يعاني إلى يومنا هذا في زمن يهمش فيه كل ما كان يشكل أفقه الفكري: التراث، والمقدس، والعناية الإلهية وهي أمور لم يعد لها مكان في فلسفاتنا اليوم.
بعد إلغاء ندوة فيكو في تونس عنونتَ المنشور على صفحتك في فيسبوك تعليقا على ما حصل بـ”فيكو ليس من غزة”! وأنا توقفت بالكثير من الحزن أمام هذه الجملة…
(يضحك). لا تأخذي الأمر بحَرفية..
لكنني شعرت صدقا بالحزن الشديد. قد أكون أنا أول من قرأ “فيكو المعجزات”. وعندما انتهيت من قراءة هذا العمل البديع مطلع أكتوبر/تشرين الأول ربما حتى قبل أن تقوم أنت بأول تقديم له في نابولي، اندلعت الحرب في غزة. ولأن كل شيء يحدث لسبب، اكتشفت أنني قرأته في هذا الوقت تحديدا حتى أرى رؤية هذا الفيلسوف العظيم، الذي يتم تهميشه في الغرب، تتجسد في الشعب الفلسطيني ومقاومته، الشعب الذي أراد الغرب أيضا أن يهمشه ويدفع به إلى غياهب النسيان. كل ما كان يدعو له فيكو هو غزة بحذافيرها، صمودها، مقاومتها، وإيمانها، وشعرها.. ولا غرو في أن كاتبا كإدوارد سعيد، وهو أعظم مفكر فلسطيني على الإطلاق، يعتبر فيكو أهم فيلسوف ترك أثرا على فكره، بل جعل باحثا إيطاليا اسمه ماورو سكاليرتشيو يكتب قبل سنوات قليلة دراسة مهمة جدا ومعمقة تظهر أثر فيكو على الدراسات بعد الكولونيالية وفي فكر إدوارد سعيد تحديدا.. عمليا ما منح رؤى الأخير نبضها وروحها، بل تماسكها هي فلسفة فيكو..
أنا سعيد جدا بسماع هذا!
إذن كيف لا يكون فيكو من غزة؟!
(يضحك مجددا) لا تتوقفي كثيرا أمام تلك الجملة. اعتبريها مجرد دعابة.. أو فلنقل أن فيكو لا ينتمي لما يجري الآن في غزة ولم يكن هناك داع للاحتجاج على الحرب من خلال ندوة مخصصة لتكريم فلسفته. ويكفي أن نقرأ فيكو حتى نعرف ذلك. في الندوة كان حاضرا مترجم كتاب فيكو “العلم الجديد” بالعربية بالمناسبة وكنت أتمنى أن يعرف الجمهور العربي أهمية هذا الفيلسوف.
وما تذكرينه يؤكد الحدس الذي كان يملكه سعيد وهو الذي عرف أهمية فكر فيكو حتى بالنسبة لثقافات تبدو بعيدة سواء أكان ذلك بفضل الرؤية الروحية التي تضمنتها فلسفته أو البعد الجغرافي المتوسطي الذي ينطوي عليه. نحن ننتمي لجنوب العالم. وفيكو فيلسوف جنوب العالم بامتياز. أنا حتما لم أقصد القول إن فيكو لا علاقة له بغزة. بالعكس تماما أردت فقط الإضاءة على مفارقة إلغاء محاضرة فيكو بسبب الحرب على غزة مع أنه من يفترض أن يقربنا من بعضنا..
سيأخذني كل هذا لتساؤل آخر: لماذا لا يعتني المثقف اليميني الإيطالي اليوم بصورته في الخارج على الرغم من أنه يملك أرضية من القيم يمكن أن يبني عليها لإقامة علاقات مع مثقفين في العالم العربي تحركهم ذات الروح كما ذكرت، ولكننا في المقابل عندما نقول اليمين الإيطالي لا يأتي في ذهننا سوى الفاشية لأن هذا ما لا يزال اليسار الإيطالي يتحدث عنه إلى اليوم. وهذا ما هتف به المحتجون ضدكم في تونس.. هل تفكر هذه الحكومة على الأقل في العمل على تصحيح الصورة الثقافية لإيطاليا في العالم؟
دعينا نتفق على أن الفاشية بالنسبة لليسار الإيطالي تعني: الله الوطن والعائلة. هؤلاء يريدون أن يلغوا ذاكرة إيطاليا الثقافية وقيمها الدينية ويطلقون على كل هذا اسم الفاشية. لا يريدون مقدسا ولا موروثا ولا أي رابط حضاري يجمع بين مكونات المجتمع.
والحكومة لا يبدو لي أنها تدرك حجم هذا التحدي الثقافي. هي منشغلة بتسيير الأمور الراهنة والملحة فقط، تاركة الشأن الثقافي والسلطة الثقافية بين يدي تلك الجماعة التي تحدثنا عنها: جماعة التقدميين، الماديين، الماركسيين السابقين. وهذا ما يؤزم وضع المثقفين من أمثالي ممن يدافعون عن المبادئ والقيم التقليدية. ذلك أن السلطة السياسية والحكومة لا تدافع عن مواقفنا الثقافية حتى إن كانت على اليمين وهذه هي المفارقة التي نحياها اليوم في إيطاليا بل في الغرب.
مارتشيللو فينيتسياني: اليسار يريد إلغاء ذاكرة إيطاليا الثقافية وقيمها الدينية ويطلقون على كل هذا اسم الفاشية (الجزيرة)
فلنعد إلى فيكو: وأنا أحضّر لهذا اللقاء عدت لنسختي من كتابك “فيكو المعجزات” ووجدت أنني سطرت فيه عشرات الجمل والمقاطع. كلها تحيلني الآن لغزة ولكن ربما الجملة التي أرى أنها تعبر عن روح الانسان الغزاوي هي فكرة “الذهن البطولي”. سأقتبس الآن من كتابك “إنّ ذهننا الذي يهفو دوما إلى الأبدية والخلود، دون أن يبلغهما، ذهن بطولي. هو أكثر من مجرد فورة بطولية، على حد تعبير جوردانو برونو، بل هو اشتياق يدفعنا تجاه الله، دون ادعاء استبداله بأي شيء”. أقرأ هذا وأنا أتذكر شابا فلسطينيا شاهدت مقطعا له بعد أن فقد عينه في هذه الحرب وكان سعيدا وهو يصف لنا ما رآه بعد أن تعرض للإصابة بل يصفها أنها أجمل لحظة في حياته: رأى ملاكا يواسيه ويطعمه. بل وصف لنا رِجل الطاولة التي كان يجلس إليها وقال إنها أجمل من الدنيا بأسرها! وتحضرني أمية جحا وهي تروي للجزيرة نت يوميات النزوح ولكنها تستخدم على نحو تلقائي ومركّز لغة ميتا ـ تاريخية لتصف علاقتها مع اللحظة الحاضرة.. المفارقة هنا أن فلسفة التحرر من قيود العالم المادي والدنيوي وحدوده الضيقة صاغها فيكو باقتدار بكل تشعبها وزخمها وهو لم يسافر يوما خارج حدود نابولي تماما كما هو حال غزة المحبوسة والمحاصرة منذ سنوات ولكنها مع ذلك هي من يلقن اليوم العالم كله دروسا في الحرية على جميع الأصعدة وبعملقة لا مثيل لها.. إن كان ثمة شيء تريد أن تقوله للغزاويين اليوم من وحي فيكو فما الذي سيكون؟
ليس شيئا واحدا إذن بل هما اثنان. الأول يتعلق حتما بالذهن البطولي: تخيلوا معي ذلك الرجل الهزيل والخجول، ذا الظهر المنحني وهو يدخل بتواضع إلى قاعة التدريس متكئا على عصاه، وبمجرد أن يبدأ بالكلام يراه طلبته وهو يتحول حرفيا إلى عملاق. يصير كتلة نور وينير كل شيء من حوله لأنه يحمل طلبته إلى عالم بطولي حيث الخيال له مكانة محورية، والشعر هو أساس اللغة، والفلسفة والعلم ينجدلان ومعا يأخذوننا إلى العلم بالله. عالم فيكو عضوي يرتبط فيه كل شيء، العلوم والمعارف لا تنفصل عن بعضها البعض كما هو حال العلم الحديث.
العالم بالنسبة لفيكو كمسبحة، وإن كانت تتكون من حبات عديدة لكنها تتناغم مع بعضها ويبقى استخدامها موجّها لغرض واحد هو ذكر الله.
لشبابنا ولشباب غزة بالطبع أقول: نعم لستم محبوسون ولا محتجزون في هذه اللحظة الحاضرة وغِنى الإنسان يكمن في قدرته على الجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل والخيال (ونحن نهفو إلى الله) والخلود (وهي لحظة العودة إليه). نحن نعيش في هذا العوالم الخمسة ولا نعيش فقط لحظة الحاضر. وعظمة فيكو تكمن في أنه فهم كل هذا. ويبقى ما هو مبهر في فيكو كما ذكرتِ هو أنه لم يخرج يوما من نابولي وضواحيها، وعلى الرغم من ذلك كان قادرا أن يكوّن تلك النظرة الكونية دون أن يلتقي يوما بأي شخص ينتمي لعالم خارج عالمه ولكنه تكلم بلسان كل الشعوب. وهذا يعني شيئا واحدا: عندما يعرف الذهن كيف يسافر يعرف أيضا أين يحطّ.
جميلة جدا هذه الكلمات! فيكو اليوم إذن يحط في غزة، ويجمع إيطاليا بالعالم العربي بالرغم من التوجس الظاهري الذي قد يبدو بيننا، بل وحتى “الصدام” الطفيف الذي حصل في معرض تونس للكتاب. وحتى نختم برأيك كيف يمكن للمثقفين الأحرار في العالم أن يبنوا جسورا لتقوية الأواصر بينهم بعيدا عن السلطتين: السياسية على اليمين والفكرية على اليسار والتي تعمق للأسف خلافاتنا واختلافاتنا؟
علينا أن نعود حتما لنقطة البداية، إلى تقاليدنا، إلى الموروث، إلى الأصل. وهذا يعني وضع المقدس في صلب تفكيرنا، وأن نكون قادرين على فهم من أين أتينا، مع إدراك أن العالم يتغير لكن دون أن ننسى أن هناك ثوابت في الروح البشرية لا تتغير. والشجاعة الفكرية أن نكون قادرين على تحدي هذا العالم العدائي، واللامبالي، والأصم، والتكلم بلغتنا هذه: لغة الذهن البطولي.
علينا أن نعود إلى الكلام بلغة الأصل. وهي فقط اللغة التي ستجعلنا نتجاوز توجسنا واختلافاتنا. ما يمكن له أن يوحدنا فقط هو: المقدس. أنا عندما أقرأ لريني غينون عبد الواحد، ذلك الكاتب الذي وُلد في قلب التقاليد الأوروبية ثم ذهب إلى القاهرة حيث تعرف على الموروث الإسلامي العظيم مثله مثل فيلسوف آخر هو فرِثيُوف شوُون (عيسى نور الدين أحمد)، أرى أن كليهما فهم أن ثمة مركزا واحدا يعلو على كل شيء والديانات ليست سوى إشعاعات تنبثق عن هذا المركز.. إذن فلنعد إلى هذا المركز ولنبحث عن هذه النقطة العليا التي توحّدنا.