يستعيد الأميركي من أصل بولندي بول أوستر (1947-2024) في روايته السيرية “حكاية الشتاء” حياته الماضية ومختلف المراحل التي مر بها منذ طفولته وحتى شيخوخته وتأثير كل مرحلة عليه وتفكيره أثناءها والأحلام والأوهام التي كان يبحث عنها ويحاول تحقيقها في كل مرحلة، وكذلك الأمكنة الكثيرة التي عرج عليها وسكن فيها، وما خلفته لديه من آثار لا تمحوها السنوات.
الشتاء الموصوف في رواية أوستر -التي نشرتها شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في بيروت بترجمة هالة سنو (2015)- يعكس الفصل الأخير من عمر الروائي المولود في نيوجيرسي عام 1947، خاصة أنه يرمز إلى الشيخوخة ونهاية دورة الفصول بحيث تكتمل الدائرة وتبدأ بعدها دورة جديدة، ويكون فصل جديد يبدأ بالربيع.
“حكاية الشتاء” لدى أوستر هي حكاية شتاء العمر أو حكاية نضجه وحكمته وفصول شتاته، وتمكنه من النظر إلى حياته بشيء من الحيادية، وكأنه يشاهد فيلما سينمائيا يسترجعه بأدق تفاصيله، أحيانا بالأبيض والأسود، وأحيانا بالألوان.
رواية “حكاية الشتاء” تمثل سيرة ذاتية للروائي بول أوستر (الجزيرة)
خيبة الظن
تكون ذاكرة الرجل العجوز صورة روائية مستقاة من ماضيه وواقعه ومن سيرته ونجاحاته وإخفاقاته، خيباته ونكساته، سواء في الحب أو العمل أو مختلف مناحي الحياة الأخرى.
ويتنقل بذاكرته بين مدن عدة يذكرها بالترتيب يرقمها ترقيما يوافق ارتحالاته، وتفوق تلك الأمكنة العشرات، وهي تعكس طبيعة الحياة القلقة والمتوترة التي عاشها، كما تعكس جوانب من نمط الحياة الأميركية التي كانت تسمها حالة من انعدام الأمان الوظيفي والمعيشي، في ظل غياب الضمان الاجتماعي، وفي استذكار لزيادة الفروقات بين الناس واختلاف الأمزجة بين جيل وآخر وبين مدينة وأخرى.
يستهل أوستر بمخاطبة نفسه وقارئه معا بقوله “تظن أنك في مأمن من هذه الأحداث وأنها لن تنالك، وأنك الشخص الوحيد في هذا العالم الذي هو بمنأى عنها، لكن لا بد أن يحين وقت خيبة الظن، فتراها تصيبك كالآخرين تماما”.
ويرى أن جسده يحوي قائمة آثار جروح مندملة، ولا سيما تلك المحفورة على وجهه وتتراءى له كل صباح عندما ينظر في مرآة الحمام.
ويذكر الروائي أنه نادرا ما يفكر في تلك الندوب، ولكن كلما أتت بباله يدرك أنها أمارات حياته الفارقة، وأن الخطوط المسننة المتنوعة والمختلفة المحفورة في جلدة وجهه بمنزلة حروف أبجدية سرية تسرد وقائع متصلة بماهيته وتعرّف عنه، لأن كل ندبة أثر لجرح مندمل، ولأن وراء كل جرح صداما مع العالم غير منتظر، أي حادثا أو أمرا لم يكن هناك موجب لوقوعه بما أن أي حادث هو أمر ينبغي عدم وقوعه.
ويذكر أوستر أن جسد الإنسان موقع أحداث لفظه التاريخ، وأنه من جسده تبدأ الحكاية، حكاية شتائه، وكل شيء ينتهي مع جسده أيضا، بحيث إن جسد الطفل الغض لا يلبث أن يشتد عوده، ثم يبلغ مرحلة من القوة والفتوة، ويصل إلى ذروة ينحدر بعدها رويدا رويدا إلى عالم الوهن، يطاله التغيير مع كل تقدم في السن، ويرضخ لسطوة الزمن عليه، ويستجيب رغما عنه لتلك التغيرات التي تكمل دورتها وتوصله إلى نهايته.
يستعيد أوستر ذكريات صداماته الأولى مع الوقائع، ويتذكر حبه الأول وأصدقاءه السابقين: والديه وأصدقاء الطفولة والشباب، والنساء اللاتي تعرف إليهن لاحقا، وكثيرا من الناس الذين صادفهم أثناء تجوله وتنقله، ومفارقات كتابته وأعماله.
ثراء الهوية
يصف الروائي الأميركي نفسه بأنه دائما ضائع، يتخبط في الاتجاه المعاكس، يدور في دوائر، ويعجز عن التكيف مع الاتجاهات المكانية، وحتى في نيويورك التي قضى فيها الجزء الأكبر من مرحلة الرشد كان يصادف المتاعب غالبا.
كما يقول إنه مر بجملة صدمات متتابعة وتغيرات مفاجئة وانتفاضات باطنية غيّرته جذريا وحددت لحياته سكة مختلفة، إذ وجد نفسه أحيانا مشردا لم يكن ثمة مكان يلجأ إليه أو مال لدفع تكاليف الانتقال من منزل إلى آخر.
ويسأل أوستر نفسه سؤالا استنكاريا عما إن كان يود أن يعرف من يكون؟ ويسلّم جدلا بكونه نتاج هجرات جماعية أزلية هائلة العدد قائمة على الغزوات وأعمال الاغتصاب والخطف، وبكون تلك التقاطعات الملتوية والطويلة الأمد لجموع أسلافه اتسعت وامتدت وبسطت نفوذها على مناطق وممالك عديدة.
وينبّه نفسه بأنه ليس الشخص الوحيد الذي صال وجال، فقد دأبت قبائل بشرية في الترحال في أنحاء الأرض على مدى عشرات ألوف السنين.
ولا يخفي أوستر تأثره بالمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، ولا سيما حين يشير إلى مقارباته الفكرية المهمة في عدد من القضايا، ومنها مسألة الهوية.

كما يتطرق إلى أصول أجداده البولندية، فيلفت النظر إلى أن الناس احتاروا في تحديد هوية إثنية له لأنه طوال حياته أضفى عليه مواطنون من بلاد أجنبية مختلفة جنسيات شتى، جازمين أنه إيطالي ويوناني وإسباني ولبناني ومصري وحتى باكستاني.
ولأنه لا يعرف شيئا عن المكان الذي جاء منه قرر منذ عهد طويل أن يفترض أنه مركّب أو مؤلف من جميع الأجناس المنتمية إلى نصف الكرة الشرقي، فيقول إن جزءا منه أفريقي وآخر عربي وآخر صيني وآخر هندي وآخر قوقازي، أي أنه خليط من حضارات متصارعة مختلفة ومتنوعة في جسد واحد.
وفي موقف مختلف يعتقد أوستر أن افتراضه تنوع هويته يمثل بالنسبة إليه موقفا أخلاقيا، طريقة ما لشطب مسألة العرق التي يراها مسألة مزيفة لا تجلب إلا الخزي والعار على كل من يسأل عنها.
ويؤكد أنه بناء على ذلك قرر عن وعي أن يمثل الجميع ويشمل الجميع في داخله لكي يكون في حالته السوية من غير قيود، بما أن السؤال “من تكون؟” يحمل في طياته لغزا كبيرا، وهو فقد الأمل من إمكان إيجاد حل لهذا اللغز في يوم من الأيام.
كما يلفت صاحب “ثلاثية نيويورك” النظر إلى أن خيوطا كثيرة ضاعت منه عبر الزمن لنسج حبكة حكايته على نحو مترابط، لذلك لا غنى عن جانب من الانتقائية بحسب التذكر والاستعادة.
ويسأل نفسه في خاتمة حكايته “كم صباحا تبقى من عمره؟”، ليضيف أن بابا أغلق وفتح آخر في رحلته الحياتية، وأنه أصبح في شتاء العمر.

سهم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *