يعد الباحث المغربي محمد سعيد المرتجي في طليعة علماء الآثار المغاربة الجدد، الذين قدموا الكثير للجامعة المغربية، لما راكمه من تجارب مهمة داخل مجال البحث العلمي في فرنسا. فقد قاده شغفه المبكر بالفن الإسلامي إلى إنجاز أطروحة الدكتوراه حول تمثلات هذا الفن داخل المتاحف الفرنسية.
ورغم أن الدكتور محمد سعيد المرتجي لم يشتغل داخل المتاحف المغربية، فإن هذا الشغف والتعلق بمفهوم المتحف، جعله يعمل في بداياته أستاذا لتاريخ الفن والفن الإسلامي والمتاحف بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء لمدة من الوقت، قبل أن ينتقل بشكل نهائي صوب جامعة محمد الخامس العريقة بمدينة الرباط.
لا يمكن تصور ما قدمه محمد سعيد المرتجي للجامعة المغربية في مجال تاريخ الفن وسوسيولوجيا المتحف. فمن المعروف أن الكتابة التاريخية ظلت بمنأى عن التفكير في مدارات الفن، باعتباره مجالا معرفيا يظل للمؤرخ العربي رؤيته الخاصة في فهم اللحظات العسيرة التي مرت منها البلدان العربية. فالأحداث التاريخية لا تبق حبيسة النسق السياسي أو التمثل الاجتماعي، بل يتسرب وقعها إلى المجال الثقافي عامة والذائقة الفنية على شكل خاص.
لذلك تعتبر أعمال كل من ماتيس وبيكاسو وبولوك إلى حد كبير وثائق بصرية، بحكم ما تصوره من أحداث مهمة في التاريخ البشري. وقد لعبت دورا بارزا بالنسبة للمؤرخ الغربي في الحقبة الحديثة، بحيث تم الاستناد عليها بوصفها وثائق أيقونية استطاعت تحرير الكتابة الفرنسية من التعامل الضيق مع الوثيقة التاريخية.
وهذا الأمر بالضبط هو ما عمل عليه الأستاذ سعيد المرتجي داخل الجامعة، فقد حرر عقولنا وأثار انتباهنا إلى أن الفن لا يعيش على هامش المجتمعات، وإنما يشتغل كحركة فكرية مؤثرة في بنية تفكير المجتمعات لما أضحى يلعبه في الحقبة المعاصرة من دور كبير وفعال. لا سيما في المرحلة المعاصرة التي شهدت فيها المنظومة المتحفية المغربية نموا كبيرا على مستوى إقامة متاحف جديدة وتزويدها بأعمال فنية عالمية وتحف أثرية ذات علاقة بتاريخ المغرب وذاكرته.
عن جماليات الفن الإسلامي وخصائصه الفنية ودور المتحف كقاطرة ثقافية صوب التنمية، كان للجزيرة نت هذا الحوار الخاص بالرباط مع الأكاديمي المغربي محمد سعيد المرتجي:
الاهتمام بالآثار

بداية، ما الذي جعلك تهتم بالآثار الفنية الإسلامية وتنجز منذ سنوات أطروحة الدكتوراه بجامعة فرنسية في موضوع “الفن الإسلامي في المتاحف الفرنسية”؟

في الحقيقة، إن اختيار الاشتغال على الآثار الفنية الإسلامية وعرضها في المتاحف الفرنسية فرض نفسه لمجموعة من الاعتبارات: أولها هو أنه امتداد للمسار الجامعي الذي بدأناه في “المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث” في شعبة علوم المتاحف والرغبة في العمل على جانب من التراث الثقافي المغربي الخاص بمنطقة جبالة في شمال البلاد وإشكالية عرضه في متحف إثنوغرافي.
وبعد زيارتي لعدد كبير من المتاحف الفرنسية، كان من اللافت للنظر امتلاك فرنسا مجموعات غنية من الآثار الفنية الإسلامية تغطي مساحة جغرافية من إسبانيا إلى الهند وتمتد من القرون الأولى للهجرة إلى العصر العثماني، بالإضافة إلى مجموعات إثنوغرافية مهمة.
والملاحظ أن الإنتاج العلمي الفرنسي عن العالم الإسلامي وفير، غير أنه من الغريب عدم إنجاز أي دراسة تحليلية منهجية، لا عما تحتضنه فرنسا من حيث مجموعات الفن الإسلامي، ولا عن الإشكاليات والمشاكل التي يثيرها عرض هذا التراث في مؤسسة ثقافية مثل المتحف.
لذلك انصب اهتمامنا على إعطاء فكرة عن غنى التراث الإسلامي المعروض والمحفوظ في المتاحف الفرنسية والغربية عموما، وتسليط الضوء على جوانب عرض هذا الفن في المتاحف الشاهدة على العلاقات التاريخية المعقدة بين الأوروبيين والحضارة الإسلامية، والمشاكل التي يطرحها وجود هذا الفن في المتاحف، وذلك لفهم طرق العرض المتحفي بشكل عام والتحقق ميدانيا بفعل الملاحظة المباشرة للمؤسسات المتحفية التي تخزن وتعرض هذه الفنون لتحليل الدعائم التواصلية لفهم الإستراتيجيات المعتمدة لمساعدة الزوار على تلقي أهداف معدي تصور المعارض المؤقتة والدائمة للآثار الفنية الإسلامية.
كتاب “القصر الكبير.. التاريخ والمجتمع والتراث” من تنسيق وتقديم محمد سعيد المرتجى (الجزيرة)
جماليات الفن الإسلامي

يعد التراث الفني الإسلامي مكونا من مكونات التراث الأثري العربي. لكن، إلى أي حد أسهمت خصائصه الفنية وعناصره الجمالية في عملية تدويل الآثار العربية وإعطائها بُعدا كونيا؟

لنفهم الاهتمام غير المسبوق بالفن الإسلامي من المختصين والمعنيين بالشأن التراثي، خاصة على المستوى الدولي، يجب استقراء الماضي، واستحضار كيف أن مؤرخي وهواة الفنون الإسلامية أسهموا على مر تاريخ العلاقات الغربية الإسلامية في انتظام الاهتمام بالفن والآثار الإسلامية وتطور النظرة إليهما، ذلك أن هذه الصيرورة أسهمت في تشكيل الذوق الفني لدى الفرنسيين والغربيين عموما، وتحديد معايير لتقييم الفن الإسلامي.
كما عملوا على تقريب هذا الفن غير المعروف في الأوساط الثقافية الغربية بواسطة كتاباتهم الغزيرة، التي ساعدت على تكوين معرفة علمية متخصصة لدى القراء الغرب وحتى المسلمين أنفسهم، وتنظيمهم لمعارض الفنون الإسلامية وإغنائهم لمجموعات المتاحف، فأصبح لكل بلد تحفه الفنية الإسلامية.
وتمكن مقارنة المجموعات المتحفية الإسلامية المحفوظة في فرنسا، من حيث الثراء والجودة، بتلك الموجودة في متحف فيكتوريا وألبرت في لندن، أو متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك، أو متحف الفن الإسلامي في برلين، أو متحف هيرميتاج في روسيا.
كما أن التراث الإسلامي المتميز بتنوع تعابيره الفنية وخصوصية سياقه الحضاري يجعل من الصعب إخضاعه للدراسة من خلال النماذج والقوالب الغربية، وهو ما لم تنتبه إليه بعض الدراسات الاستشراقية التي كُتبت لتقرأ من طرف الغرب، لا من أصحاب الثقافة المدروسة. لذا، من الضروري فهم خصوصية الفن الإسلامي وعناصره الجمالية وتحديد سياقه السوسيوثقافي، لأن ذلك سيسهل عرضه في فضاءات المتحف وتقريب مضامينه للزوار.
التراث المغربي وتثمينه

رغم الإمكانات الهائلة التي يتوفر عليها المغرب، مقارنة ببلدان أخرى، فلا يزال الاهتمام بعملية الحفر والتوثيق والتثمين مرتبكا وهشا بالاستناد إلى ماضي هذا البلد ودوره التاريخي. لماذا في نظرك، يظل التعامل مع مسألة التراث المادي موسميا ولا يأخذ صبغة دائمة داخل الراهن المغربي؟

بالفعل، يتميز المغرب بتراثه الثقافي المتنوع، الذي لا يزال حيا وأصيلا. وعلى مدى العقود القليلة الماضية، أثار هذا التراث اهتماما كبيرا بين عامة الناس والمختصين دوليا. غير أنه من الواضح أن المغرب ظل متخلفا نسبيا فيما يتعلق بهذه الديناميكية، ويمكن الجزم بأن هناك بونا شاسعا بين ما يتوفر عليه البلد من مؤهلات تراثية، مادية وغير مادية، تاريخية أو طبيعية، مجموعة منها محفوظة في المتاحف الوطنية والعالمية، وبين حجم الوعي والاهتمام بهذا الموروث وتأهيله وتوظيفه في التنمية المحلية، سواء على المستوى الرسمي أو على مستوى المجتمع المدني المهتم بالتراث الثقافي.
ويرجع ذلك إلى مجموعة من الأسباب أهمها غياب المقاربة التشاركية التي تجمع مختلف الفاعلين المعنيين بالشأن التراثي وطنيا وجهويا ومحليا وما يتبع ذلك من تشتيت المجهودات والإمكانيات المادية والمعنوية، ناهيك عن غياب شبكة متحفية قادرة على نشر الثقافة والوعي بين المواطنين، خصوصا الأطفال والشباب منهم بأهمية التراث الثقافي على المستوى الوطني باعتباره رافعة حقيقية للتنمية المستدامة، وهو ما يعني ضرورة تكوين محافظي التراث والمتاحف والوسطاء الثقافيين لتقريب هذ التراث الغني من المواطنين، بالإضافة إلى ضرورة بذل مجهود أكبر لتوثيق التراث المادي واللامادي وتثمينه.

المتاحف المغربية والتقنية

أنت من المتخصصين القلائل في علم التحافة بالعالم العربي، وراكمت تجارب أكاديمية مهمة في المجال. ما الواقع الذي ترسمه للمتاحف المغربية، أمام الوسائط البصرية الجديدة التي اكتسحت المجتمعات؟

يظهر جليا لكل ملاحظ للشأن المتحفي في المغرب أن هذه الفضاءات لا تستقطب إلا أعدادا قليلة من الزوار، إذ لا نكاد نلمس داخلها ما يفيد بأنها تتوجه لخدمة هؤلاء تربويا وثقافيا. فقاعات المتاحف مهجورة في غالب الأحيان من الزوار المغاربة، وهو ما يوحي بأن هذه المؤسسة واقع غريب عن ثقافتنا وبعيدة عن الانشغالات الأساسية للمواطن العادي.
لذا يجب “تغيير” فكرة أن المؤسسة المتحفية نخبوية لتمكين الجمهور الواسع من الاقتراب والولوج إلى هذه الفضاءات، ومخاطبة الجمهور خاصة فئة الشباب بوسائط حديثة يتقنون التعامل معها من خلال اقتراح زيارات افتراضية، وتوظيف التكنولوجيا السمعية البصرية في طرق العرض.

التفكير في المتاحف

إلى حد اليوم، لم يُفعّل المغرب سياسة إقامة متحف داخل كل مدينة، وهو ما يجعل أغلب المتاحف متمركزة داخل مدن كالرباط والدار البيضاء وفاس وطنجة. هل تعتقد أن هذه الطريقة في توزيع المتاحف، كافية لتقريب الناس من المتاحف، أمام النفور الذي يطبع علاقة المغاربة بفضاء المتحف؟

بالفعل من الضروري عدم مركزة المتاحف في المدن الكبرى وعدم التركيز فقط على بناء متاحف كبرى؛ ذلك أن المتاحف كونها مؤسسات علمية وتربوية وترفيهية ممركزة في هذه المدن لا يمكن أن تكون كافية للقيام بهذه الأدوار في المدن الأخرى.
لهذا يجب التفكير في أن تصبح المتاحف مؤسسات مهمة على الصعيد المحلي من خلال إنشاء هذه الفضاءات في مختلف المدن المغربية لتحقيق عدالة مجالية نابعة من حكامة جيدة، وكذا الحرص على تملك هذه المؤسسات من طرف الساكنة والمجتمع المدني المحلي. ولتطوير العرض المتحفي يجب أن يرافق البنية التحتية استثمار في العنصر البشري من تكوين ومواكبة حتى يصبح المواطن مستهلكا واعيا للمنتوج الثقافي.
لأن الملاحظ هو أن تجاوب المغاربة والعقليات لم تتغير بشكل واضح مع تغير مؤسسات الوصاية على المتاحف وانتقالها من وزارة الثقافة إلى المؤسسة الوطنية للمتاحف، فرغم الإمكانيات الضخمة المرصودة لهذا القطاع مؤخرا، فإن القطيعة هي السمة الأساسية التي تطبع العلاقة بين المتاحف والمغاربة، ناهيك عن الصورة المترسخة لديهم على أن المتحف هو فضاء موجه بالأساس للأجانب لتعريفهم بالتراث المغربي.
التوعية بأهمية المتحف

أشرفت على عديد من الورشات العلمية والندوات الأكاديمية، التي تعنى بعلم التحافة في علاقته بتحولات المجتمع المغربي المعاصر. إلى أي حد يمكن أن تسهم هذه الورشات في تقريب إشكالية مفهوم المتحف للباحث المغربي؟

دفعنا الاهتمام المتزايد بمواضيع التراث الثقافي المادي وغير المادي في المغرب للاستمرار قدما في تتبع كل ما يتعلق بسبل الحفاظ عليه اعتبارا لدور المتحف الرئيسي في المحافظة وعرض الشواهد التاريخية والثقافية.
ومن ثم جاءت فكرة الإصرار على التساؤل بمعية مجموعة من الباحثين المغاربة من مختلف التخصصات حول المؤسسة المتحفية وواقع التحافة بالمغرب، وذلك إيمانا منا بأن البحث في ثنايا هذا الموضوع لا يزال في بداياته، ويشكل فضاء للتفكير وتعميق المعرفة حول مجموعة من مفاهيم التاريخ والتراث وكذا بعض الإشكاليات مثل الحفاظ على التراث والتواصل من خلال عرض التحف، ثم العلاقة بين الجامعة والمتحف والمجتمع ويظهر من حجم الأسئلة التي يمكن طرحها أن مجال البحث مازال بكرا وجديدا ويحتاج من الباحثين الانخراط في مثل هذه الأبحاث.
والواقع أن هذه الأبحاث تتموقع، في الوقت نفسه، في تخصصات متشكلة وواضحة الهوية كالتاريخ والأنثروبولوجيا وأخرى حديثة نسبيا متحركة، وفي تشكل دائم، كالتحافة.

سهم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *