الخليل – تتوالى التحذيرات الدولية من انهيار السلطة الفلسطينية جراء الحصار المالي الإسرائيلي، لكن الحكومة الفلسطينية رسمت أمس صورة مختلفة، وأعربت عن ثقتها بتحسن مالي خلال الأشهر المقبلة.
وحذر البنك الدولي أواخر مايو/أيار من أن السلطة الفلسطينية تواجه مخاطر “انهيار في المالية العامة” مع “نضوب مصادر الإيرادات” والانخفاض الكبير بالنشاط الاقتصادي، على خلفية الحرب المتواصلة على قطاع غزة، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023″.
ولاحقا في 17 يونيو/حزيران أشار وزير خارجية النرويج إسبن بارث إيدي، إلى احتمال حقيقي لانهيار السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، في تكرار لمخاوف أبدتها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من احتمال انهيار السلطة.
تفاؤل رسمي
رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى، خلال الاجتماع الأسبوعي لحكومته أمس الثلاثاء عبّر عن ثقته “بأن الوضع المالي سيشهد تحسنا في الأشهر المقبلة، مع استمرار الجهود لأن يصل على الأقل جزء من هذه الأموال خلال الأسبوعين القادمين، لتتمكن الحكومة من الوفاء ببعض التزاماتها”.
وأشار إلى استمرار العمل مع عدد من الأطراف الصديقة “من أجل تأمين الإفراج عن أموالنا التي تحتجزها إسرائيل”، وفق قوله، والعمل في عدة مسارات لتوفير الموارد المالية اللازمة، وجهود متواصلة مع مجموعة من الدول العربية وبعض دول العالم ومؤسسات التمويل الدولية “لحشد الدعم المالي للخزينة العامة”.
وتحدث عن “تجاوب من هذه الأطراف، وتفهما للوضع الحساس وانعكاساته الاقتصادية والاجتماعية والأمنية”.
وما بين التحذيرات الدولية من انهيار السلطة، وتفاؤل رئيس الحكومة، يرسم خبيران تحدثا لـ”الجزيرة نت” صورة تقريبية للوضع المالي للسلطة الفلسطينية، تستبعد انهيار السلطة وفي الوقت ذاته الخروج من عنق الأزمة المالية.

لماذا التفاؤل؟
ويقول مدير البحوث في معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني رابح مرار، إن تفاؤل مصطفى مبني على اجتماع الدول المانحة في بروكسل أواخر مايو/أيار والدفعات المالية التي وصلت من فرنسا والاتحاد الأوروبي وغيرهما على شكل دعم مباشر للموازنة وليست على شكل مشاريع تطويرية.
وخلال يونيو/حزيران الجاري أعلن الاتحاد الأوروبي تقديم نحو 16 مليون دولار للسلطة الفلسطينية، في حين أعلنت فرنسا عن تقديم نحو 8.6 ملايين دولار، وبريطانيا عن نحو 12.6 مليون دولار، كما أن النرويج أعلنت في مايو/أيار عن 9.45 ملايين دولار.
ورحب قادة مجموعة السبع الصناعية في اجتماعهم في 14 يونيو/حزيران بتعيين حكومة فلسطينية جديدة، وأكدوا استعدادهم لدعم السلطة الفلسطينية.
ويضيف مرار أن المبالغ التي تم تحويلها أو في طريقها للتحويل -وإن كانت بسيطة- خلقت جوا من التفاؤل لشعور الجانب الفلسطيني بوجود قبول دولي أوروبي للحكومة الجديدة التي كانت قلقة من احتمال عدم  قبولها دوليا.
ويشير الخبير الفلسطيني إلى عامل آخر، هو أن قادة لدول السبع أعطوا تطمينات لسلطة النقد الفلسطينية بأنهم سيضغطون على الجانب الإسرائيلي لمنع وزير المالي بتسلئيل سموتريتش من تنفيذ تهديداته بوقف تعامل البنوك الإسرائيلية بالتحويلات المالية مع البنوك الفلسطينية.
ويرى مرار أن الولايات المتحدة ضغطت بقوة ومن خلال وزارة الخزانة في هذا الاتجاه لمنع انهيار السلطة ومنع تدهور الوضع الأمني في الضفة، لكنه يستبعد تغييرا كبيرا في الوضع الاقتصادي القائم والمتدهور، خاصة مع استمرار أزمة العمال بمنعهم من الوصول إلى أماكن عملهم في إسرائيل.
وتفيد معطيات الاتحاد العام لعمال فلسطين بأن نحو 225 ألف فلسطيني كانوا يعملون في إسرائيل حتى السابع من أكتوبر/تشرين الأول برواتب تقدر بنحو 1.3 مليار شيكل (362 مليون دولار)، لكن معظمهم اليوم عاطلون عن العمل.
ويتوقع مرار استمرار السلطة الفلسطينية خلال الشهور القادمة في دفع رواتب منقوصة لموظفيها وبنسبة 50% كما في الشهور الأخيرة.
ولفت إلى أن الحكومة الفلسطينية كانت تعتمد على أموال المقاصّة، وهي عائدات ضرائب تجبيها إسرائيل نيابة عن السلطة في المنافذ الدولية، بنسبة 70%، لكن لا يصل منها اليوم سوى نحو 50% مما كان عليه الوضع قبل الاقتطاعات الإسرائيلية.
ويرجّح أن ما يصل من المقاصة مع الإيرادات الداخلية لا يغطي سوى نصف من إيرادات الحكومة في الوضع الطبيعي، وبالتالي لا تكفي لدفع الرواتب بشكل رئيسي.
وعن تقديراته للشهور المقبلة قال: “لا أعتقد أن شيئا دراماتيكيا سيحدث خلال الشهور الثلاث القادمة، فقط يمكن التعويل على وقف الحرب وإدماج السلطة في حال وافقت إسرائيل في إعادة الإعمار لإنعاش الاقتصاد”.

ديون باهظة
ويرى الخبير الاقتصادي نصر عبد الكريم أن الإجابة عن السؤال بشأن واقعية تفاؤل السلطة، تعتمد على تطور الأحداث السياسية والأمنية والميدانية في قطاع غزة من جهة، وموقف المجتمع الدولي من السلطة ومدى الضغط على إسرائيل وتقديم المساعدات من جهة ثانية.
وأضاف أن رئيس الوزراء الفلسطيني ربما لمس في جولاته خارج البلاد تفهما دوليا للأزمة المالية للسلطة، وبنى تفاؤله على وعود أوروبية وعربية بتقديم مساعدات والضغط على إسرائيل لثنيها عن فرض عقوبات على السلطة.
ويستبعد عبد الكريم أن تتمكن السلطة من الوفاء بالتزاماتها المالية كاملة ويشرح ذلك بالأرقام، مبينا أن مستحقات آخر 8 شهور سواء موظفين أو القطاع الخاص وصلت حدودا عالية جدا، “وحتى لو افترضنا تحرير أموال المقاصة والمستحقات المالية وهي حوالي 6 مليارات شيكل (1.6 مليار دولار) تقريبا فإنها لا تفي بكافة المستحقات على السلطة”.
ويشير إلى أن متأخرات رواتب الموظفين تقدر بنحو 6 مليارات شيكل (1.6 مليار دولار)، وأكثر منها مستحقات للقطاع الخاص، موضحا أن “الدين العام للسلطة يقدر بنحو 11 مليار دولار، بما فيها القروض المصرفية، أي نحو 40 مليار شيكل”.
وبالتالي، يجدد الخبير الفلسطيني تقديراته بأن أموال المقاصة لو تحررت بالكامل لا يمكنها تغطية المتأخرات التي نشأت بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، “وعليه أتوقع حلحلة الأزمة المالية، وليس حلها، في حالتين: وجود مساعدات سخية من الدول، وتحرير أموال المقاصة”.
واستدرك: “هذا قد يعيدنا لما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث لم تكن تفي السلطة بكل التزاماتها، وكانت تدفع 85% من الرواتب، مع دفع جزء من باقي مستحقات القطاعات الأخرى”.
وأشار إلى أن عجز موازنة السلطة قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول وقبل 2023 كان يصل إلى مليار دولار سنويا، جزء منه يغطى من مساعدات دولية والآخر يبقى دينا.
ولا يفضل عبد الكريم استخدام مصطلح “انهيار السلطة” الذي حذرت منه أوساط فلسطينية ودولية “لأن له دلالات اجتماعية واقتصادية وسياسية ومؤسساتية”، ويرى أن المصطلح الأفضل لتوصيف الحالة هو “شلل وتعثر يتعمق مع الزمن”.
وتابع أن انهيار السلطة يعني أن تصبح غير فاعلة على الإطلاق أو تخرج عن الخدمة، وهذا يدلل على فراغ في إدارة الشأن العام، لكن المجتمع الدولي يعبر عن حرصه على وجود السلطة واستمرارها في تأدية التزاماتها، وربما إدماجها في إعادة الإعمار غزة.

سهم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *